القدس في عيون الفنانين التشكيليين الفلسطينيين 1





القدس كمدينة مُقدسة لدى شعوب المنطقة العربية في أصولها وجذرها التاريخي والوجودي المنتمية للكنعانيين العرب الأوائل، والمتصلة في قيمها الروحية لأديان التوحيد (اليهودية، المسيحية، الإسلام). هي امتداد طبيعي لأبجدية عربية كاملة المواصفات، تُسقط ذاتها موضوعياُ وفي مختلف العصور على مشاعر الناس وأحاسيسهم وتستوطن منهم القلوب والأفئدة والعقول وتأخذ حيزاً من مجتمع السياسة والثقافة، وتُساهم في تشكيل مرجعيات تواصل فني وجمالي مع ذاكرتها التاريخية والوجودية وأصولها المتوارثة عِبر تناقل الأجيال من خلال معابر الابتكار والوصف البصري والتفكير الجمالي، لأعمال فنية تشكيلية فلسطينية محمولة بروافع أيديولوجية قومية ودينية، وغير مفصولة عن مساحات الصراع التاريخي والغزوات المعادية للأمة العربية والإسلامية من حروب فرنجة أعجمية أوربية وأمريكية مستمرة، تأخذ في المرحلة الآنية المُعايشة من الغزوة الصهيونية المدعومة من المُحافظين الجدد في إدارة بوش الأمريكية الوجه السافر والقبيح لأشكال الاستعمار القديم والحديث والمعاصر.



من لوحات الفنانة الفلسطينية سهاد عنيتر

يرتدي هذا الصراع بكافة ملوناته وعناصره، ومقومات الحياة التاريخية واليومية والنضالية ثوب المواجهة والتحدي من كونه صراع وجود وبقاء، يتحمل الشعب العربي الفلسطيني وزر هذه المعادلة العربية في مواجهة مُستديمة وإرادة قوية في استكمال دورته. لأن القدس تُمثل في الوجدان العربي الفلسطيني موقع القلب في الجسد الفلسطيني الذي قوامه الوطن في حيزه الجغرافي التاريخي المتجاوز لحدوده الطبيعية، وجزء لا يتجزأ من ذاكرته الوجودية، والشغل الشاغل لكافة المُبتكرين الفلسطينيين لاسيما المُشتغلين في ميادين الفن التشكيلي واللوحة التصويرية على وجه التخصيص محمولة بأبعاد وجودية وتاريخ وجذور إنسانية بقيمها الروحية والحضارية المُكرسة في أوابدها ومعالمها التاريخية.




قبة الصخرة لوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط
من هنا نجد أن مدينة القدس محمولة بتعددية الاجتهاد الفكري وفلسفة الفن الجمالية والتأويل البصري والكيفية التي صاغها الفنانون التشكيليون، بما يملكون من موهبة وخبرة ودربة ميدانية وتجربة والتحام مع أقدارهم المصيرية في خوض غمار المعركة المفتوحة مع جبهة الأعداء الداخليين (الكيان العنصري الصهيوني) والخارجين ممن والاهم ودعهم في غيهم وعدوانهم من مِلة الكفر والإلحاد الأوربية والأمريكية ومن لف في فلكهم من ناحية، وما لديهم من قدرات فنية على رسم معالم التأليف البصري الشكلي، والتوصيل المتبعة في رسوم ولوحات الفنانات والفنانين التشكيليين الفلسطينيين التصويرية كخصوصية تعبيرية من جهة ثانية، ندرجها في اتجاهين رئيسين:

الأول: متصل بميادين الواقعية التسجيلية في الفن لأسباب سياحية واقتصادية.

الثاني: يلبس دثار التعبيرية - الرمزية والإحالات الدلالية المستلهمة من قصص التاريخ والبطولة والقيم الروحية والدينية المسيحية والإسلامية، الممجدة للتراث وأشكال المقاومة في كافة صورها ومظاهرها الكفاحية.



من لوحات الفنان الفلسطيني ياسر أبو سيدو الغول
لو تأملنا في تفاصيل ومكونات وأساليب المعالجة الفنية والفكرية والجمالية التي نفذها ورسمها الفنانون التشكيليون الفلسطينيون في مراحل زمنية متلاحقة لنجد التوحد في السياق العام لأهمية ومكانة مدينة القدس التاريخية والروحية وحالة التفاعل الإنساني المُتجاوز حدود الجغرافية الطبيعية لفلسطين، وخصوصية كل منهم في التأليف والتوصيف واختيار لقطات التصوير البصري ليوميات هذه المدينة المقدسة. وأية قراءة بصرية متأنية وشاملة ومبنية على أساس التحليل البنيوي التفكيكي والتركيبي "الغشتالت" لمكونات النصوص البصرية المُنفذة حول مدينة القدس ستتوصل إلى تلمس خصوصية الهويّة والمرجعات الثقافية للفن التشكيلي الفلسطيني كقضية فكرية وجمالية وإنسانية بامتياز.

ولا بّد لقارئ النص الفني (المُتذوق) والتقني (الناقد) أن ينطلق في مطالعته الفنية التشكيلية للنصوص البصرية الفلسطينية ذات العلاقة الموضوعية بمدينة القدس من واحة المعرفة الفكرية وفلسفة ذاكرة المكان الوجودية والبصرية، والأهمية التاريخية والروحية لهذه المدينة ومراعاة خصوصيتها في حياة الناس والدخول في متن التجربة وحقيقة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والمعابر الزمنية المُتعاقبة والمُصاحبة لمُجمل مجريات الصراع العربي - الصهيوني في إبعاده التاريخية والوجودية من ناحية، وأن ينظر إليها باعتبارها مكون أساسي من الثقافة البصرية الفلسطينية الكفاحية من ناحية ثانية، وأن يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد المكانية والإحالات الدلالية الرمزية المتصلة بالأسطورة "الميثولوجيا"، والتراث والموروث الشعبي والذاكرة الفلسطينية الحافظة ومتعددة المهن والصنائع ومتنوعة أشكال الكفاح والمواجهة، وتلك المتصلة بالتجارب الشخصية في سباقاتها التقنية والشكلية.

وعليه يٌمكن لنا أن نتناول أهم المحطات الرئيسة للأعمال الفنية التشكيلية الفلسطينية التي تناولت مواضيع مدينة القدس وفق ما سبق قوله:

الواقعية التسجيلية:

تتسم الأعمال الفنية الفلسطينية التشكيلية المواكبة للمراحل الزمنية السابقة لنكبة فلسطين عام 1948 بالمسحة السياحية والتجارية، والمتصلة بعمليات جذب الزبائن وحركة التفاعل النفعي مع حجاج الطوائف المسيحية في مواضيعها المُنتمية إلى التصوير الديني الكنسي من تصوير السيد المسيح وأمه مريم البتول والقديسين وكنيسة القيامة خصوصاً في أوضاع شكلية متعددة وفق سياقات الفن الأيقوني المُتعارف عليه في منطقة الشرق العربي، سواء أكان ذلك من خلال الرسم بالأحبار أو الملونات المائية والزيتية أو المواد التقنية المتعددة أو تنفيذ الأعمال المتصلة بميادين الفنون التطبيقية من خط عربي وصناعة مُجسمات من الصدف والعاج والخشب والحجر والمطرزات الفلسطينية والمعادن والقش وسواها من مواد حرفية متنوعة.

أخذت الأماكن المقدسة المسيحية مثل "كنيسة القيامة" والإسلامية "المسجد الأقصى وقبة الصخرة" وما يُحيطها بها من طبيعة وحركة شخوص وعبادة المجال الحيوي في مُبتكرات فناني تلك المرحلة ونذكر منهم على سبيل المثال: (توفيق جوهرية، داود الجاعوني، داود زلاطيمو، جمال بدران، حنا مسمار، عبد الرزاق بدران، خيري بدران، محمد وفا الدجاني، نجاتي الامام الحسيني" وغيرهم. ركزت أعمالهم على إبراز القيم التعبيرية الواقعية المصاحبة لمرجعياتها الدينية المسيحية والإسلامية، مشددة في كثير من الأحوال على الأنماط المعمارية البيزنطية والعربية الإسلامية الحافلة بالزخارف النباتية والهندسية والحيوانية، وعامرة بالخطوط العربية (الثلث، الكوفي المتنوع) وما يتخللها من تزين وترصيع وتذهيب وطلاء متعدد التقنيات والألوان لاسيما في رسم معالم بيت المقدس المُجسدة في المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة وبواباتها وسبلها وطبيعتها الغناء.



لوحة القدس للفنان الفلسطيني داود زلاطيمو


لوحة فلسطين لنا للفنان الفلسطيني داود الجاعوني
إن مكونات لوحة "القدس" للفنان الفلسطيني "داود زلاطيمو" التي نفذها بملوناته الزيتية نجدها تعتمد في هندسة عمارتها الفنية على النمط التقليدي من واقعية تسجيلية محددة التكوين والأبعاد المنظورة، حيث تًشكل اللوحة في محتوياتها ثلاثة مستويات مُتداخلة الأول في مقدمة الجزء السفلي من اللوحة الساحة المحيطة بقبة الصخرة وبضع شخوص في اليمن يقابلها كتلة شخص في اليسار ثم قبة الصخرة في الوسط المعانقة كبد السماء في غيوم كثيفة مُشكلة البعد الهوائي الثالث كخلفية متممة في ألوان غير مفارقة لواقعيتها التصويرية.

بينما نرى الفنان الفلسطيني "داود الجاعوني" اتخذ من الخط العربي والكوفي خصوصاً مجالاً حيوياً لتأليف نصوصه البصرية والتي تُشكل في تراص حروفه المستوية والمتعامدة والمتقوسة والمؤلفة من خارطة فلسطين الطبيعية في حدودها الجغرافية التاريخية والتي تشكل حيزاً فاصلاً لبنيتها الشكلية والمحاطة بعبارتها المكتوبة (فلسطين لنا) المؤكدة على الحقوق التاريخية، حيث جسدت عبارة "فلسطين" القاعدة وكلمة "لنا" البساط المتراكم فوقها والمحاطة بامتداد ألف اللام والطاء كنوع مميز في جماليات الكتابة العربية